اللغة ونسب الإرادة للجمادات

وَردت الجملة التالية في مقال في صحيفة “الغارديان” البريطانية: 
“The overcrowded boat, carrying 20 people, threatened to capsize” 
ويمكن ترجمتها حرفياً: “القارب المزدحم، الذي كان يقل ٢٠ شخصا، هدد بأن ينقلب.”
ذكرتني هذه الصيغة بظاهرة لغوية نبه إليها بعض علماء اللغة العرب من القدماء، وهي أن يُنسب للجماد فعل يستخدم في العادة للإشارة للبشر، لكونه يدل على العمد والقصد. وهو في المثال السابق كلمة “هدد”، التي قد توحي بأن للقارب إرادة تعطيه القدرة على التهديد بأن ينقلب، غير أن الواقع أنه استخدام مجازي للفعل.
والمثال المقابل في العربية، والذي يورده السيوطي في كتابه “المزهر في علوم اللغة وأنواعها”، هو مقطع من الأية 77 من سورة الكهف: “فَوَجَدَا فيها جِدَاراً يُريدُ أن يَنْقضَّ”. والشاهد هنا “يُريِد”، والتي قد توحي بأن للجدار إرادة تخوله بأن يقرر إن كان سينقض. واللهجات العربية المعاصرة تحفل بالكثير من الأساليب الشبيهة، فطفلي الصغير ذكر الجملة التالية قبل أيام: “الطيّارة بِدْهَا (بودها أن، تريد) توقع”، والأمثلة من هذا القبيل أكثر من أن تحصى.
وبالطبع، فإن اللغات مليئة بالأفعال التي تلحق تجاوزاً بالجمادات مع تحمله من دلالات قد توحي بأنها صادرة عن قادر على الحركة والفعل من تلقاء ذاته، كقولنا “تحرك القارب”، في حين أنّ ما سبب حركة القارب هو من قام بفعل التجديف أو من شغّل المحرك. غير أن الفريد في المثالين الذَيْن ذكرتهما هو أن يُلحق بجمادين فعلان يدلان على الإرادة والقصد والنية، فأن تقول “تحرك القارب” شيء، وأن تقول “أراد القارب أن يتحرك” أو “هدد بالقارب بأن يتوقف” هو شيء آخر كلياً.
والمسألة تصبح أكثر تعقيدا عندما نتحدث عن السيارات آلية القيادة والربوتات وغير ذلك من الآلات ذاتية الفعل، مع إمكان تطورها بحيث تصبح مستقلة بشكل شبه كامل. عندئذ لن يكون الحديث عن مجازات لغوية، بل سيكون أقرب إلى النقاش الأزلي حول ما إذا كان صانع تلك الآلات، الإنسان، مخيراً أم مسيّراً. لكن هل كان البشر من صنع تلك الآلات أصلاً؟ 

10 أغسطس 2016
الشروط والأحكام/الملكية الفكرية للنص
تعود حقوق الملكية الفكرية لكل من النص والصورة للمؤلف “محمود حبوش”. يُمنع منعاً باتاً نشر، أو إعادة نشر، بشكل جزئي أو كلي، وبأي وسيلة نشر إلكترونية أو غيرها لهذا النص والصورة المرفقة أو غيره من النصوص والصور الموجودة في هذه المدونة المعنونة “www.mhabboush.com”. أي نقل غير مصرح به يضع صاحبه تحت طائل المسئولية القانونية. وفي حال الرغبة في نشر أو إعادة نشر أي جزء من المحتوى المتوفر في هذه المدونة، باستثناء الربط الذي يُرجع القارئ إلى المدونة والحادث عبر وسائل التواصل الاجتماعي، يجب الكتابة إلى صاحب الملكية الفكرية عبرصفحة المدونة على الفيسبوك والتي تحمل العنوان التالي: www.facebook.com/arabianliterature.
التصنيفات لغويات،مقالاتالوسوم ، ، ، ،

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه:
search previous next tag category expand menu location phone mail time cart zoom edit close