أناقش في هذه المقالة جانباً من التاريخ الدلالي لكلمتي “صناعة” و”فن” العربيتين وعلاقتهما برديفتهما في اللغة اليونانية القديمة.
استخدم أفلاطون، وغيره من فلاسفة اليونان القدماء، كلمة “تِخْنِهْ” (Τέχνη بالرسم اليوناني، و Techne بالرسم اللاتيني) في العديد من المواضع، في العادة للإشارة إلى ضربين من “الصناعة”: الحِرفية، كالنجارة والحدادة؛ والفنية، كالموسيقى والنحت وحتى للإشارة إلى الشعر. وكلمة “تِخْنِهْ” ترتد إلى الجذر الهندوروبي “تِكْسْ” (tetḱ*)، بمعنى يُنتج أو يخلق، ومنها خرجت الكثير من الكلمات التي لا زالت مستخدمة في هذه العائلة اللغوية، فنجد في الإنجليزية كلمات مثل تكنولوجي (technology)، وتكنيك (technique)، وتكنو (techno).
ليس في نيتي الخوض في ظلال معاني الجذر اليوناني وأُثْلته الهندوروبيّة، وإنما غايتي هي بيان مقابلاتها العربية، وما اعتراها من تغيير؛ وبذلك سيجري حديثي عن كلمتي “صناعة” و”فن”. معاجم اللغة بعمومها تشير إلى أن الجذر “صنع” يعني عَمَلَ الشيء، وكذلك عمل الشيء بإتقان.
ونجد في الصحاح “الصناعة” بمعنى “حرفة الصانع”؛ وفي القاموس المحيط “صنعة” بمعنى مهارة: “صَنْعة الفرس: حسن القيام عليه”؛ إلى غير ذلك من المعاني الملتصقة، المرتبطة بالدلالة الأصلية.
أما كلمة “فن”، فيبدو أن ثمة اتفاقاً بين أصحاب المعاجم على أن معناها الأصلي هو الضرب أو النوع من الأشياء، ففي لسان العرب: “الفَنُّ: واحد الفُنُون، وهي الأَنواع، والفَنُّ الحالُ”. وبالحديث عن كلمة “فن”، نجد أن البلغاء من الكتاب العرب قد استخدموا الكلمة بالمعنى المعجمي، كما في مقابسات التوحيدي (ت 1023م): “قد مر في هذه المقابسة التي تقدمت فنون من الحكمة وأنواع من القول”.
غير أنهم استخدموها أيضاً بمعنى ملكة أو مهارة أو نوع بعينه من المعرفة، كما في قول التوحيدي بعد عدة فقرات من قوله الأول: “لست أنافس أحداً على هذا الحديث إلا بعد أن يرسم بقلمه في هذا الفن عشر أوراق”، والاستخدامات بهذا المعنى كثيرة عند التوحيدي وغيره.
ومن الواضح أن دلالة لفظة “فن” شهدت تحوراً معنوياً ابتدأ بالإشارة إلى نوع من الأنواع على الإطلاق، ثم إلى الإشارة إلى نوع بعينه، خاصة من المهارات المعرفية، إلى أن تطور معناها مع الكتاب المتأخرين نسبياً كالصفدي (ت 1363م)، الذي نجده يستخدم تركيباً مثل “فن الكتابة” كما في قوله في “أعيان العصر وأعوان النصر”: “شاعراً أديباً، ماهراً في فن الكتابة، أريباً”. كما نجد تركيب “فن الشعر” في مقدمة ابن خلدون (ت 1406م): “واعلم أن فن الشعر من بين الكلام كان شريفاً.” فالتحور الدلالي هنا واضح جلي، إذ انتقلت الكلمة من معنى نوع، إلى نوع من المهارات المعرفية بعينه، وصولاً إلى التركيبات التي تشبه التركيبات المعاصرة والاستخدامات الحديثة للكلمة، كما رأينا عند الصفدي وابن خلدون.
وسنرى أدناه كيف استخدمت كلمة صناعة بمعنى قريب، ولكن منذ زمن أبكر. ويبدو أن دلالة كلمة “صناعة” كمقابل لكلمة “تخنه” تطورت بمعزل عن أي تأثير يوناني. فاستخدام علماء اللغة، الذين لم يعرف عنهم تأثرهم أو اطلاعهم على ما ترجم من كتب اليونان، لكلمة صناعة للإشارة إلى علوم ومهارات أو مهن لا تشتمل على العمل اليدوي فيه دلالة على أن التحور الدلالي الذي أصاب لفظة “صناعة” كان بمعزل عن كلمة “تِخْنِهْ”.
فنجد عبد الحميد الكاتب (ت 750 م) يقول في رسالته إلى الكتّاب: “حفظكم الله يا أهل صناعة الكتابة”، ونجد الخليل بن أحمد (ت 791 م) يقول في معجم العين: “وربما قالت العرب للرجل المتزين باللباس: قَيْنَةٌ، كان الغناء صناعة له أو لم يكن”، فكلاهما استخدم لكلمة صناعة للإشارة إلى حِرفة يُعتاش منها، وليس بالضرورة حرفة تشتمل صُنع الأشياء المادية. ثم نجد كذلك تراكيب عند الجاحظ (ت 868 م) من قِبل “صناعة الكلام” و”صناعة البلاغة”؛ وعند جابر ابن حيان (ت 815 م) “صناعة الفلسفة” و”صناعة الحكمة”؛ وابن النديم (ت 990 م) يذكر في فهرسته على الأقل ثلاثة كتب تحمل عنوان “صناعة الشعر”.
كما أننا نقع على تراكيب “صناعة الإعراب” و”صناعة الاشتقاق” عند ابن جني (ت 1002 م)؛ ونرى معاصره أبو هلال العسكري (ت 1005 م) يطلق كلمة “صناعة” على كل من الشعر والنثر في عنوان كتابه “الصناعتين”؛ وفي “الهوامل والشوامل” للتوحيدي نجد: “وههنا تظهر صناعة الخطابة والبلاغة والشعر”.
ومع ذلك يبقى السؤال، هل استخدم ابن جني وغيره تلك التراكيب تأثراً بما تُرجم من أعمال أفلاطون وغيره؟ أو قد يكون الأمر محض صدفة، وأن كلا من العرب واليونان اتفقتا على استخدام كلمة “صناعة” للإشارة إلى الفنون الكتابية والخطابية، وهنا نكون في مواجهة حالة عَرَضية من التشابه في الاستخدامات اللفظية في لغتين. ولعل من المنطقي أن تُستخدم كلمة “صناعة” كترجمة لكلمة “تخنه” للقرب المعنوي الأصيل بين الكلمتين، بغض النظر عن التاريخ الدلالي للكلمة العربية. لكن من المثير حقاً أن نرى كيف تحولت كلمة “فن” عن الإشارة إلى نوع من الأشياء لتعني “صناعة” أو “مهارة”، لتصبح بديلاً لكلمة “صناعة.
وعلى العموم، فإن كلمة “تِخْنِهْ” أبت إلا أن تطرق أبواب العربية، بعد عدة قرون، بشكل مغاير، وإن كان المعنى لا يزال قريباً من المعنى الأصلي للكلمة، فنجد اليوم كلمات مثل “تكنولوجيا”، بمعنى مهارة أو إنجازي صناعي، وكلمة “تقنية”، بنفس المعنى السابق تقريبا. وإن كانت كلمة “تقنية” أُخذت من اللفظة العربية “أتقن”، فإن الكلمة مع ذلك معربة، تعريباً بالمعنى على أقل تقدير، إذ يبدو أن من عرّبها اختار جذراً قريباً صوتياً ومعنوياً من كلمة “تِخْنِه”، التي تلفظ بالإنجليزية بالكاف، ويمكن تعريبها بإبدال الخاء أو الكاف قافاً.
27 ديسمبر 2017