ملاحظات حول أصالة الشعر الجاهلي

أثار كتاب “في الشعر الجاهلي” لطه حسين جدلاً لم يحدثه غيره في تاريخ الأدب العربي الحديث. وكان الداعي لكل ذلك شكه في صحة الشعر الجاهلي بجملته، وجزمه بأن جلّه منحول على أصحابه. (صدر الكتاب عام 1926، وأعيد طبعه بعد عام تحت عنوان “في الأدب الجاهلي” مع مراجعات وإضافات).

وهاك الفقرة التي أشعلت أكبر معركة أدبية في القرن العشرين (حسين، 1998: 19): 

ملاحظات حول أصالة الشعر الجاهلي

ولم يكن عميد الأدب العربي أول من عدى في مضمار الشك في صحة نسْب الأدب الجاهلي إلى زمنه بطبيعة الحال. فقد سبقه ولحقه عدد من الدارسين في هذا المجال، لا سيما من المستشرقين من أمثال نولدكه، آلورد، مرجليوث، وبلاشير (سزكين، 1991: 27-48؛ وشاكر، 1987: 12 وما بعدها). وفي مقابل هؤلاء المشككين، ذكر فؤاد سزكين أسماء ثلاثة من كبار المستشرقين الذين اطمأنوا، بعد نظر عميق، إلى أصالة الشعر الجاهلي وأبدوا ثقتهم في جلّ ما وصل إلينا منه، وهم: لايل، وكرينكو، وبروينليش (سزكين، 1998: 31-32). 

أقرر في هذه المقالة جملة من الملاحظات التي تدعم عقيدتي القديمة باستحالة نفي الأصالة عن الشعر الجاهلي برمته، وهي ملاحظات لا باع لي فيها سوى عرض ما توصل إليه بعض كبار المختصين بتاريخ العربية وآدابها، وعلى رأسهم العلامة فؤاد سزكين، لا سيما ما كتبه في عمله الموسوعي “تاريخ التراث العربي”: 

* دُوِّن الشعر الجاهلي في مرحلة مبكرة جداً، بعضه في الجاهلية، وكثير منه في صدر الإسلام. بل سبقت العناية بالشعر العناية بجمع اللغة، لكنها تزامنت مع تدوين الأحاديث والتفاسير والمغازي من قِبَل ابن عباس وغيره من أوائل علماء الإسلام. وثمة خبر يفيد بأن الخليفة عمر بن الخطاب أوصى الأنصار بتسجيل شعرهم في هجاء قريش (سزكين،1991: 53). ونقل سزكين قولاً للمستشرق لايل، أُورده بصورته (سزكين، 1991: 31)، وهو من الأهمية بمكان من جهة دحض الظن بأن تدوين هذا الشعر وقع في القرن الثاني من الهجرة:

ملاحظات حول أصالة الشعر الجاهلي

وسزكين أسهب في مسألة قِدَم التدوين في التراث العلمي العربي في مواضع عدة من تاريخه القيّم، سواء كان ذلك فيما يتعلق بتدوين السنة، أو السيرة، أو التفسير، وغير ذلك. وناصر الدين الأسد استوعب قضية التدوين المبكر أيما استيعاب في كتابه المرجعي “مصادر الشعر الجاهلي”.

وهاهنا خبر أورده الجاحظ يدلل على قِدَم التدوين وإن كان من العصر الأموي. ولعل في تعليقه على الخبر دلالة على أن الاختلاف الوارد في الأشعار ليس نتيجة للتصحيف فحسب (كما استنتج بعضهم)، وإنما يرجع إلى مشاكل مرتبطة بالنقل الشفوي عموماً؛ وثمة فرق بين التصحيف والغلط في نقل بعض كلمات قصيدة وبين انتحالها برمتها (الحيوان، 1965: 41): 

ملاحظات حول أصالة الشعر الجاهلي

* الاهتمام المبكر بالشعر لم يكن لمجرد التباهي بتراث القبائل، بل تعداه إلى الرغبة في الحفاظ على اللغة (وهو ما يعزز أقدمية الاهتمام بالشعر وتدوينه). وقد حدث ذلك في زمن الخلفاء الراشدين: استشهد ابن عباس بالشعر لشرح مائتي كلمة قرآنية صعبة (سزكين، 1991: 144). وفي هذا الصدد نجد في الإتقان في علوم القرآن قولاً لابن الأنباري (السيوطي، 2018: ص 183):

ملاحظات حول أصالة الشعر الجاهلي

* لم يدون جميع الشعر في الجاهلية وصدر الإسلام بطبيعة الحال، وإن اشتد خلال العصر الأموي (سزكين، 1991: انظر م 2، ج1). لكن ذلك لا يقلل من أهمية الذاكرة في حفظه، خاصة قصائد فحول الشعراء، ولا سيما أن لكل شاعر راوية أو رواة يختصون بنقل انتاج صاحبهم. وفي سياق الحديث عن الرواية الشفاهية عموماً، فلا ينبغي التقليل من أثرها، فقصص جميع الشعوب تنوقلت عبر الأجيال لمئات وأحياناً آلاف السنين من دون تغير كبير. ولعلّ خير دليل على ذلك ما نشرته مجلة “ناشيونال جيوغرافيك” من أنّ لقصة أسطورية عن انفجار عظيم، تناقلها سكان أستراليا الأصليين عبر ٢٣٠ جيلاً، أصل جيولوجي. ذلك أن انفجاراً بركانياً حدث قبل سبعة آلاف عام تماثل مجرياته تفاصيل الأسطورة. بطبيعة الحال، يمكن تصور انتقال القصص عبر الزمن، كمعنى عام، بشكل أفضل من انتقال الشعر بصورة دقيقة لا تحريف فيها، ولربما لهذا السبب نجد أن أقدم الشعر العربي لا يتجاوز مائة عام قبل الإسلام.

* أما فيما يتعلق بمسألة النحل، ففيها مستويين: الأول: لا يمكن الأخذ بتجريح البعض لحماد الراوية وخلف الأحمر (وهما أشهر من اُتهما بوضع الشعر) بشكل نهائي، مع العلم أنهما ليسا الراويين الوحيدين للشعر الجاهلي (سزكين، 1991: انظر م ٢، ج ١). الثاني: من الطبيعي أن يكون جزء من الشعر منحولاً كما كُذب على رسول الله (ص) في الآلاف من الأحاديث الموضوعة، لكن ذلك لا يعني أن نطلق حكماً نهائياً على نحل الشعر الجاهلي بجملته، لا سيما أنه كان لدى كبار نقاد الشعر من المتقدمين قدرة فائقة على تمييز الشعر المكذوب على أصحابه (المرجع السابق). وكما قال الأمير شكيب أرسلان: لا يعني انتحال بضعة مجلات شعراً عليه أن كل شعره منحول (أرسلان، انظر تمهيد كتابه الشعر الجاهلي: أمنحول أم صحيح النسبة).

* محمود محمد شاكر “أبو فهر”، ذكر أمراً مهما وهو أن أسلوب ومواضيع الشعر الجاهلي تختلف حتى عن الشعر الإسلامي المبكر (انظر مقدمة كتابه: المتنبي). وهذا أمر نظن أنه بين بنفسه، وكل ما يتطلبه هو قراءة متأنية للشعر الجاهلي ومقارنته بما جاء بعده. يقول شاكر (1987: ص 11): 

ملاحظات حول أصالة الشعر الجاهلي

وتذكرني الثيمات المتكررة في الشعر الجاهلي، من وقوف على الأطلال وبكاء للديار وغير ذلك، بالنقوش المتناثرة في أرجاء الجزيرة العربية، وتكرار مواضيعها بصورة كبيرة، من دعاء وتعبير عن اشتياق وغير ذلك (كُتُب الباحث السعودي سليمان الذييب حافلة بهذه الأمثلة). 

وبعد، فثمة كلمتان لا بد منهما في نهاية هذا القول:

أولاً: كتاب طه حسين، بنسختيه، يبقى، شئنا أم أبينا، علامة فارقة في تاريخ الأدب العربي الحديث ودراسته، ليس لما احتواه من وجهات نظر (وإن كان صاحبها تراخى عن غلوها بعض الشيء في طبعة 1927، ويبدو أنه تراجع عن هذا الغلو بشكل أوضح في أحاديثه الشخصية، بزعم محمود شاكر في مقدمة كتابه عن المتنبي)– ليس لكل ذلك، وإنما لما أثار من شغب وجدل استمر لعقود. فالكتاب أشعل أكبر سجال أدبي عربي في القرن العشرين برمته كان من نتائجه دراسات فذة خلصت إلى نتائج علمية دعّمت جذور الاعتقاد بصحة طائفة كبيرة مما وصلنا من الشعر الجاهلي. 

ثانياً: لماذا بعد ما يقرب من مائة عام على اندلاع هذه المعركة، لا زلت، أنا غير المتخصص في هذا المجال، أقلق نفسي بشأنها. السبب بسيط وهو غيرتي على هذا الإرث واقتناعي بأصالة ما اتفق عليه النقاد القدماء والمحدثين من شعر الجاهلية (كان لدى علماء اللغة والشعر من أمثال أبي عبيدة والمفضل الضبي وغيرهما قدرة على تمييز الشعر المنحول). ولأني أعتقد أنه تراث عريق لكل متحدث للعربية ولا يجب التخلي عنه مهما بدا صعبا وغريباً. سوزان ستيتكيفيتش، التي منحت عام 2019 وزوجها ياروسلاف ستيتكيفيتش لقب «شخصية العام الثقافية» من جائزة الشيخ زايد للكتاب، قالت خلال حفل تسليم الجائزة بما معناه: أنها سألت نفسها في وقت مبكر: لِمَ تزعج نفسها بدراسة هذا الشعر القديم؟ وكانت إجابتها لنفسها أنها إذا ما عرفت أن ثمة كنزاً يكمن في مكان ما، هل تتركه لأنه يحتاج شيئاً من الجهد لاستخراجه؟ إجابتها كانت: أن هذا الشعر هو كنز ويستحق كل تعب وعناء في سبيل استخراج جواهره. 

مراجع:
(اعتمدت هذه المقالة أساساً على استنتاجات الدكتور فؤاد سزكين)
أرسلان، شكيب، الشعر الجاهلي: أمنحول أم صحيح النسبة، دار الثقافة للجميع – دمشق، 1980.
الأسد، ناصر الدين، مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية، ط 5، دار المعارف – 1978. 
حسين، طه، في الشعر الجاهلي، ط 2، دار المعارف للطباعة والنشر – تونس، 1998.
الجاحظ، أبو عمر، الحيوان، تحقيق عبد السلام هارون، ط 2، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابلي الحلبي وأولاده بمصر – القاهرة،  1965. 
سزكين، فؤاد، تاريخ التراث العربي، مجلد 2، ج 1، ترجمة محمود فهمي حجازي، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية – الرياض، 1991.
السيوطي، جلال الدين، الإتقان في علوم القرآن، تحقيق محمد سالم هاشم، دار الكتب العلمية – بيروت، 2018.
شاكر، محمود محمد، المتنبي، ط 3، ـ دار المدني – جدة، 1987.

19/24 أغسطس 2019

التصنيفات مقالات،تراثياتالوسوم ، ، ، ،

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه:
search previous next tag category expand menu location phone mail time cart zoom edit close