القصيدة الجاهلية، كما وصلتنا، هي أبعد ما تكون عن الصيغة الأولى للشعر العربي. وما تناقله بعض المؤرخين القدماء لا وجه للاعتداد به كدليل على قدم عهد العرب بالشعر. المؤرخ الكنسي سوزمينوس (توفي حوالي 450 م) مثلاً تحدث عن تغني العرب حتى عهده بنصرهم على الرومان تحت حكم الملكة ماوية. فمن البديهي تصور الرعاة وركاب القوافل يهزجون بألحان متناغمة منذ أبعد العصور. لذا، ففي ظني ليس لهذه الروايات أي قيمة تذكر سوى الاستئناس طالما فشلت في تقديم أي نموذج للشعر العربي في تلك الأزمنة.
وعدم الاعتداد نابع أيضاً من كون إيغال الشعر في القدم بيناً بنفسه، وليس بحاجة إلى قرينة متأخرة نسبياً. فمن البديهي أن تكون نقطة الانطلاق في تاريخ شعر أي أمة نوعاً من الإنشاد المتألِّف من مقاطع صغيرة، موزونة من غير قصد، وخالية من القوافي. المرحلة الطبيعية التالية لذلك هي تطور الوزن والمواضيع، بالإضافة إلى دخول القافية لدى بعض الثقافات. وليس من المستبعد تغني الإنسان بالشعر منذ أن ملك القدرة على الكلام، وعالج الألحان قبل ذلك بمدة طويلة. فثمة الكثير من الدراسات (والنظريات) في علم الموسيقى التطوري التي تشير إلى ذلك. خذ هذه الدراسة كمثال، وهذا المقال أيضاً لاستعراض عدد من النظريات حول الجذور التطورية للغناء والموسيقى.
وفي الشعر العربي، الرجز البسيط (وليس إنتاج العجاج ومن ماثله)، هو أقرب صورة، بل ربما أحفورة، لدينا عن أصول الشعر العربي بشكله الموزون المقفى، ونرى من ذلك نماذج نقلها لنا أبو عبيدة معمر بن المثنى وغيره. وغالباً ما يكون هذا الشكل من الشعر وليد لحظته، وقد لا يكون قائله رجازاً ولا شاعراً. ونقلت لنا كتب السِيَر كلاماً مسجوعاً عن النبي قاله في لحظة شديدة الحرج في وقعة حنين: “أنا النبي لا كذب/أنا بن عبد المطلب”. وابن جني ذكر نوعاً من الإنشاد اسمه النَصْب، قائلاً إنه مما يتغنى به الركبان (الخصائص، 78)، ولا أدري إن كان ثمة نماذج باقية من هذا الشعر، لأنها ستقدم لنا بحق صورة لا بأس بها عن أحد الأشكال البدائية للشعر العربي.
من الممكن التصور أن الشعر العربي، وربما كان ذلك في لغة تسبق اللغة العربية كما نعرفها، اتخذ شكلاً معيناً في مرحلة ما، شكلاً غنائياً بسيطاً ولاشك، وامتد على ذلك النسق لآلاف السنين لم يبق فيها خاملاً، بل تطور ببطء لا يكاد يلحظ إلى أن وصل إلى صورة الرجز والقصيدة. لكن يجب التأكيد هنا على أن الشعر البدائي لا يعني بالضرورة أن معانيه كانت بدائية كذلك. وإليك هذا النموذج من نشيد لبعض سكان أمريكا الأصليين، وهم من قبيلة الباومي، كانوا يتغننون به في المعارك:
فلنر إذا ما كانت حقيقية،
فلنر إذا ما كانت حقيقية،
فلنر إذا ما كانت حقيقية،
هذه الحياة التي نعيش؟
وهذه المقطوعة، على بساطتها، تعبر عن قدرة حتى أكثر الشعوب بداءة وبداهة على التعبير عن مشاعر عميقة في أناشيدهم. والشعر العربي الجاهلي حافل بصور ومعانٍ تأسر الألباب:
وواد كجوف العير قفر قطعته * به الذئب يعوي كالخليع المعيل
ومما لا شك فيه أن الشعر ارتبط منذ أمد بعيد بالدين. العرب مثلاً اتهموا الرسول بالكهانة وقول الشعر — والاتهام الأول يرتد إلى ارتباط الكلام المسجوع بالكهان العرب، والآخر لأن أوائل سور القرآن كانت قريبة الشبه بالشعر (وإن لم تكن شعراً). وليس من الصعب تخيل استعمال شكل من الشعر كمادة غنائية تؤدى خلال الطقوس الدينية البدائية.
كما نرى أن القدماء نظروا إلى الشعر كقوة خارقة. فؤاد سزكين (تاريخ التراث العربي، م 2، ج 1، ص 14) استنتج من أبيات وأخبار قوة الشعر السحرية عند العرب وقدرة الشاعر على إيقاع اللعنة على من يهجوه.
وفي سياق ذو صلة، اعتقد العرب أن لكل شاعر شيطان يلازمه ويلهمه الشعر. واليونانيون كانوا يؤمنون بشيء من هذا القبيل، فهذا أفلاطون في نقده الشهير للشعراء يتهمهم باستلهام قصائدهم من الحوريات (في الأساطير اليونانية، آلهات يلهمن الأدباء والشعراء والفنانين)، مدللاً على ذلك بما يصيب الشاعر من حالة تشبه من به مس من جنون (راجع في هذا الشأن هذا الكتاب). شاعرهم الكبير هسيود تحدث عن نفث الحوريات الشعر في قلبه. وهذه الفكرة تصل إلى درجة التواتر في الثقافة اليونانية، وحتماً في الثقافة العربية، لا سيما في فترة ما قبل الإسلام. وربط الإبداع الفني عموماً بالإلهام الإلهي، أو الجنون المُلهِم وربما المُلهَم، مثير للاهتمام ويستحق الدرس.
(هذا المقال، وغيره، ينطلق من ملاحظات شخصية من هاوٍ لا متخصص)